حدائق ذات بهجة في خواطر وذكريات الحسون
سيصدر قريباً الجزء الرَّابع والأخير من التَّرجمة الذَّاتية التي كتبها الشَّيخ الأديب إبراهيم بن محمَّد الحسّون -رحمه الله- بعنوان خواطر وذكريات حسبما أنبأني حفيده الشَّاب المهذَّب أبو سلمان محمَّد بن يوسف الحسَّون. وقد صدرت الطَّبعة الأولى من هذا الكتاب في حياة المؤلف عام (1424)، ويقع في ثلاثة أجزاء وأزيد من (1300) صفحة؛ ونسخه الآن نافدة من المكتبة المكية، ونادرة في سوق الكتاب المحلي.
ولم يجد الكتاب الاحتفاء الذي يستحقُّه، وما كتب عنه إلاَّ د.عبدالرحمن الشّبيلي فيما أعلم؛ وقد أحسن فيما رقم من عرض وملحوظات، بينما حظي الكتاب بمقدِّمة من الوزير الأديب د.عبد العزيز الخويطر، وتحدَّث عنه الأمير سلمان في مجالسه واجتماعاته أكثر من مرَّة، بل وزار الأمير المؤلف في المستشفى التَّخصصي ثلاث مرّات إبَّان إصابته بجلطة دماغية؛ مع أنَّه لا يعرف المؤلف إلاَّ من خلال قراءة هذا الكتاب.
يحكي الحسّون في كتابه أحداثاً تجاوزت تسعة عقود، وفيه سرد تاريخي محيط لأخبار البلدان والثَّورات والحروب العالمية وتاريخ المملكة وسيرة بعض رجالاتها الأفذاذ-رحم الله الأموات منهم-. وسيحتوي الجزء الرَّابع على رحلات المؤلف الخارجية، وهو صاحب منهج بديع في السَّفر؛ إذ لا يفوِّت الفرصة على نفسه كي يزداد معرفة وثقافة مع المحافظة على شعائر دينه وسمعة بلاده.
والذي يميز ذكريات الحسّون أنَّها لم تقف عند حدود السِّيرة الذَّاتية المحضة، بل فيها شيء كثير من خبر المجتمع ورجالاته، وتواكب نشوء بعض مؤسسات الدَّولة وطريقة إدارة العمل فيها خاصَّة المؤسسة المالية ومؤسسة الجمارك. ومن المزايا التي يلحظها قارئ هذه الأحداث أنَّ المؤلف سلك فيها طريقاً ينفي الملل عن القارئ ويجعله في حال ترّقب وانتظار لما يأتي.
وفي هذه التَّرجمة الوافية أدب جم، ومصداقية واضحة وانتقال سلس بين الأحداث، وفيها إيراد لأسماء وأخبار عدد من رجالات المملكة، ووصف للمدن قبل نموها وتوسعها كعنيزة وجدَّة ومكة-شرّفها الله- وأجزاء من شرق المملكة وشمالها وحدودها القريبة من الكويت. وقد حدَّثني حفيد المؤلف أنَّه رأى بعضاً من كبار السِّن يصافحون جدَّه بعد صلاة الجمعة في جدَّة ويشكرونه أنْ لم ينسَ أخبارهم في ذكرياته التي نشر بعضها في صحيفة البلاد حينذاك.
كما نستفيد من كتاب خواطر وذكريات فوائد جمَّة، فمن جَلَد المؤلف في تحصيل مبتغاه إلى الحرص على التَّعليم وتثقيف النَّفس بالقراءة والسُّؤال، ومنها الجرأة والثِّقة العالية بقدراته ومواهبه، وأيضاً الدِّقة والانضباط في العمل، والتَّوثيق للأحداث المهمَّة حتى لا يخالطها الوهم.
وفي الكتاب وفاء كبير يلمسه القارئ من المؤلف تجاه شقيقه الأكبر؛ ونحو أصحابه وزملائه، ووفاء مفعم بالتَّقدير لأهل الفضل الذين افتتحوا المدارس ودعموها كالوجيه زينل صاحب مدارس الفلاح. وسيجد القارئ مواضع في الكتاب لا يستطيع معها مدافعة الضَّحك، ومواقف أخرى لا يسعه ألا أن يكبرها وأصحابها ذوي النَّجدة والمروءة مثل قصَّة الطَّبيب الرٌّوسي.
ولقصص الكتاب نكهة خاصة وطعم يستعذبه القارئ، فمن قصَّة سفره إلى مكة من عنيزة، ثمَّ الطَّريقة الصَّامتة التي استدَّل بها على شقيقه في جدة، وخبره كطالب منبوذ بين زملائه في المدرسة الرّشدية لأنَّه “شرقي” وَ “غطغطي” إلى أن صار العريف المقدَّم فيهم بفضل زائر! ومن القصص الطَّريفة خبره مع امتحان السَّفير المصري له في مدرسة الفلاح، وكيف كان امتحانه سبباً في نجاة باقي زملائه من رهبة الامتحانات، وكيف تفوَّق في هذه المدرسة حتى حفر اسمه على الرُّخام لحصوله على الترتيب الأول عام (1353).
كما أبدع الحسّون في الحديث عن زواجات أخيه وكيف بدأت ثمَّ انتهت، وعرض حكاية زواجه الأول وليلته الأولى باحتراز لا تخجل منه الفتاة القارئة، وببيان عذب ووفاء عاشق لزوجه الأولى سلمى، وليت أنَّ كتَّاب “الرِّوايات” يستفيدون من عفَّة قلم الحسّون فيما يكتبون.
ومع أنَّ مسائل الزَّواج والإنجاب من القضايا الخاصَّة إلاّ أنَّ المؤلف أخذ القارئ معه في أخبار زواجه من “سلمى” التي توفيت بعد شهور من زواجهما، و “سارة” التي طلَّقها بسبب السِّحر، ثمَّ “حصة” التي قضى بقيَّة عمره معها. وكتب بلغة حزينة عن أولاده الذين ماتوا، وكيف امتنَّ الله عليه بميلاد وحياة ابنه الوحيد “يوسف”؛ وولادة ابنته الوحيدة “هدى”؛ والموقف المفزع الذي جرى لزوجه بعد ولادة ابنتها، وكان من آثاره انقطاع نسلهما، ليعيش المؤلف حياته مكتفياً بيوسف وهدى، وقد عوَّضه الله من الأحفاد والأسباط ما تقرُّ به العين.
بينما تقف جميع قصص الكتاب عاجزة أمام معجزة “روز” الممرِّضة اللبنانية ذات التِّسعة عشر ربيعًا، فعن أيِّ مروءةٍ أكتب؟ وأيَّ نجدة وحميَّة أصف؟ ناهيك عمَّا في هذه القصَّة من رحمة الله وإحسانه وقربه من عباده حين يلجؤون إليه. وقد أوردها الحسّون في سياق خبره مع مستشفى الدَّرن في لبنان، وهو مستشفى يغلب عليه التَّعصب ضدَّ المسلمين، وعاد المؤلف لإكمال ماجرى له مع هذه الفتاة في زيارته إلى الباحة، وفي تلك الصَّفحات ورق مقوى لاصق يحجب بضعة أسطر وليتها تحذف في الطَّبعات القادمة.
ومن أطرف ما في هذه الخواطر ما رواه المؤلف عن صديقه الشَّهم الكريم “حمد الهندي”، وقد خلع الحسّون على صاحبه صفات النُّبل والرُّجولة لمواقفه الحاسمة معه ومع غيره، ولم يغرق الكاتب في بحر حسنات الرَّجل؛ فقد سطَّر ستَّ حكايات عجيبات مضحكات عن “عين” الهندي التي أصاب بها البَّشر والدَّواب والجمادات، وأجزم أنَّ قارئها لن يكف عن التَّبسم وقد يزيد فيضحك أو يقهقه؛ وبيني وبين القارئ أن يذهب هناك فيرى وليس سامع كمن رأى! ومن الحكايات اللطيفة زواج أحد أصحابه زواجاً وهمياً، وخروجه من خيمته عارياً هارباً بعد مكر رفقائه ومزحهم الثَّقيل معه.
وللجرأة مكان في ذكريات الحسّون، ويكفي منها أنَّ المؤلف وقف خطيباً بلا إعداد ولا سابق علم أمام الملك عبدالعزيز على هيبته، وأمام إبراهيم بن معمر رجل الدَّولة القوي في جدَّة، ومن جرأته أنَّه اعترض على الملك سعود في فترة حكمه وكاد أن يجلس مع ممثل الملك أمام قاضي جدَّة. واقتحم مكتب الأمير نواف حين كان وزيراً للمالية لتوضيح أمر خاص بالمعونات، وله مواقف جريئة مع عدد من المسؤولين وشيوخ القبائل. ومن مواقفه حواره الطَّويل مع شاب نصراني متعصب في لبنان، ورفضه أفكار القصيمي بعد أن سمع منه كلاماً لا يرضاه، ومشاركته في مظاهرة بمكة!
وقبل وفاة الحسون بسنوات أهدى جزءاً كبيراً من مكتبته إلى مركز ابن صالح في بلدته عنيزة؛ تعبيراً منه عن حبِّه لمسقط رأسه وإسهاماً في خدمة مدينته التي يرى أنَّه لم يقدِّم لها شيئا. وفي يوم الاثنين التَّاسع والعشرين من شهر ذي القعدة الحرام عام (1425) توفي الشَّيخ الأديب الحسّون بعد معاناة طويلة مع المرض، وبعد أن أنجاه الله من الموت في ثلاثة مواقف سابقة محفوظة في كتابه، وبعد حياة حافلة بالقراءة والعطاء والأحداث، وبعد أن منح الأجيال الجديدة هذا الكتاب الشَّاهد بحقٍّ على عصره.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض
الأربعاء 05 من شهرِ ذي القعدة الحرام عام 1431
ahmadalassaf@gmail.com
9 Comments